تقع مدينة القدس في بقعة جبلية هي جزء من سلسلة جبال القدس، ترتفع نحو 750م عن سطح البحر، وللقدس مكانة دينية وتاريخية لا يماثلها فيها أية مدينة أخرى، فهي مهد الديانات السماوية الثلاث: الإسلامية، والمسيحية، واليهودية. ويمتد تاريخها الحضاري على مدار أكثر من خمسة آلاف سنة كما أظهرت التنقيبات الأثرية. عُرفت المدينة عبر تاريخها بأسماء مختلفة: أورساليم، ويبوس، وإيليا كابتولينا، والمدينة، وبيت المقدس والقدس. ويمثل تاريخها والمعالم الموجودة فيها شهادة استثنائية على الحضارات المتعاقبة، وهي العصر البرونزي والعصر الحديدي، والفترة اليونانية والرومانية والبيزنطية، وبعدها الفترة الإسلامية ابتداءاً من الفترة الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والفترة الإفرنجية والمملوكية والعثمانية. وتضم المدينة ما يزيد عن 220 معلما من بينها كنيسة القيامة وقبة الصخرة والمسجد الأقصى وحائط البراق (حائط المبكى). وتمثل المدينة بغنى تاريخها وتنوعة نموذجاً فريداً للتراث الإنساني. .
تعتبر البلدة القديمة في القدس بتخطيطها وأسوراها وأسواقها ومبانيها العامة والمقدسة، نموذجاً للمدينة العربية الإسلامية، وتنقسم المدينة الى مجموعة من الأحياء وهي الحي الإسلامي وحارة النصاري وحارة الأرمن وحارة اليهود، بالإضافة إلى منطقة الحرم الشريف. تقدر مساحة المدينة بحوالي ألف دونم ويشغل الحرم الشريف حوالي سدس مساحة البلدة القديمة.
جرت التنقيبات الأثرية في القدس منذ سنة 1863 مع حملة تشارلز وارن. ومنذ هذا التاريخ جرت ما يزيد عن أربعون حفرية رئيسية في المدينة. تركزت معظمها في محيط منطقة الحرم. في حين عالجت ما يزيد عن عشرين حفرية التلال المجاورة للمدينة. وأول التنقيبات المنظمة قام بها صندوق استكشاف فلسطين ما بين 1863-1867 وذلك تحت إشراف الضابط البريطاني وارن الذي قام بحفر سلسلة من الأنفاق حوالي منطقة الحرم، تلا ذلك تنقيبات بلس ودكي ما بين 1894-1897 جنوب المدينة، ثم تنقيبات باركر ما بين 1909-1911 وقام فنسنت بنشر نتائج التنقيبات ما بين 1913-1914. وقام فايل بدعم من الثري اليهودي روتشلد بالتنقيب في جبل الظهور المطل على سلوان وفي الفترة ما بين 1923-1925 قام كل من دينكان وماكلستر وكروفوت بالتنقيب في المنطقة الجنوبية وفي الفترة ما بين 1934-1948 بالتنقيب في منطقة القلعة. وفي سنة 1961 قامت عالمة الآثار البريطانية كاثلين كنيون والأب رولاند دي فو بالتنقيب في المنحدرات الجنوبية. وبعد احتلال المدنية سنة 1967 قامت سلطات الاحتلال بتنقيبات واسعة في المدينة بالتنقيب، تركزت في المنطقة المحاذية للحرم من الجهة الغربية والجنوبية وجبل الظهور المطل على سلوان وفي بقية أرجاء المدينة.
ظهرت أقدم الدلائل الأثرية المكتشفة على المنحدر الجنوبي الشرقي للمدينة القديمة المطل على بلدة سلوان والمعروف باسم الظهور، بالقرب من نبع العذراء، وهي تعود الى العصر البرونزي. ومن الاكتشافات الهامة بقايا سور ضخم، وبرج مشيد بالحجارة على المنحدر الشرقي للتنقيبات التي قامت بها عالمة الآثار البريطانية كاثلين كنيون، وتعود لنفس الفترة بقايا متفرقة لمبانِ على طول المنحدر، بما يشير الى تأسيس المدينة في العصر البرونزي.
وظهرت آثار العصر الحديدي في أجزاء متفرقة من المدينة. ورغم الرواية التوراتية عن أعمال إنشاءات ضخمة في عهد الملك داود، إلا أن ما عثرت عليه الدكتورة كنيون لا يعدو عن كونه يتجاوز جدراناً وبقايا متفرقة. وقد استمر استعمال السور الشرقي حتى القرن السابع ق.م. كما تم الكشف عن بعض البيوت البسيطة من هذه الفترة. وتصف روايات العهد القديم سكان المدينة بالاموريين واليبوسيين والحثيين.
ومن القرن العاشر حتى القرن الثامن ق.م. كانت القدس مركز إقليمياً لحين وقوعها تحت الحكم الأشوري حوالي 722 ق.م. وبقيت تحت التأثير الأشوري حتى سقوطها على يد البابليين حوالي 586 ق.م. ويتجه البحث التاريخي الحديث إلى نقض كافة المُسَلَمات التاريخية المستمدة من الروايات التوراتية حول هذه الفترة. ويعود لهذه الفترة سورٌ شيد في القرن الخامس ق.م. إضافة إلى البوابة التي نقب عنها كروفوت. ويبدو أن تاريخ القدس الذي يرد في الأسفار الأولى للتوراة قد تشكل في هذه الفترة اللاحقة، ولا يعدو عن كونه استعادة للتاريخ الشفوي لأحداث غائمة يختلط فيها الواقع بالأسطورة. وبعد فترة قصيرة من الحكم البابلي خضعت القدس للسيطرة الفارسية التي استمرت حتى دخول الإسكندر المقدوني إلى الشرق.
وفي الفترة الرومانية أعاد الملك هيرود بناء المدينة على أساس مخطط جديد، وشيد هيرود معبداً للإله جوبيتر، وبنى ثلاثة أبراج ضخمة وهي هيبكوس وفصايل ومريامنا، وإلى الجنوب من هذه الأبراج شيد هيرود قصراً، كما أعاد هيرود بناء برج من الفترة اليونانية المتأخرة يدعى بإسم بارس وسمي أنتونيا.
وفي عهد هدريان شيدت المدينة الرومانية إيليا كابيتولينا كمستعمرة رومانية، وذلك على مخطط مربع، يقطعها شارعان رئيسيان، وقد أظهرت التنقيبات الأثرية مقاطع من سور المدينة وأبوابها بالقرب من باب العمود وإلى الشرق منها. وظهرت آثار المدينة الرومانية في أجزاء متفرقة من المدينة. واكتسبت طابعاً رومانياً.
وبعد أن أصبحت المسيحية ديانة معترفاً بها بعد مجمع نيقيا سنة 325 ميلادية بدأ بناء كنيسة القيامة، واستمرت أعمال الإنشاء في القدس في الفترة ما بين القرن الرابع والسابع الميلادي، وأصبحت تغص بالكنائس والأديرة، كما يظهر ذلك على خارطة مادبا من القرن السادس، إضافة إلى ذلك تم العثور على بقايا بيوت سكنية وشوارع ومجموعة من القبور البيزنطية.
بعد معركة أجنادين سيطر العرب على جنوب فلسطين، وإثر معركة اليرموك الفاصلة التي قررت مستقبل سوريا وقعت القدس بيد العرب المسلمين سنة 638، لتأخذ مكانها من جديد في التاريخ العربي، فهي مسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. كما بقيت القدس والتي عرفت في بداية الفتح باسم إيليا عاصمة القسم الجنوبي لفلسطين، والعاصمة الروحية للعرب والمسلمين. وفي سنة 660 تُوج معاوية خليفة للمسلمين في القدس، وفي عهد بني أمية أعيد إنشاء المدينة، وتركوا فيها روائع الفن المعماري ممثلة بقبة الصخرة والمسجد الأقصى. ودلت الحفريات الحديثة على قصور بني أمية بجوار الحرم القدسي. ولاقت القدس اهتماماً خاصاً في الفترة العباسية رغم بعد مركز الخلافة، فقد أعيد بناء المسجد الأقصى وجرت أعمال تجديد في قبة الصخرة.
كما أعيد بناء قبة الصخرة وأجزاء من المسجد الأقصى في عهد الخليفة الفاطمي الزاهر، وأعاد الفاطميون بناء تحصينات المدينة، لتدخل مرحلة من الصراع بين الفاطميين والسلاجقة بما مهد للغزو الصليبي واحتلال القدس، والتي تحولت إلى عاصمة للمملكة اللاتينية حتى تحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين سنة 1187.
وشهدت المدينة في الفترة المملوكية أعمال إنشاء ضخمة وشيدت فيها المباني العامة كالأسواق والمدارس والمستشفيات والمساجد والتكايا والزوايا والأسبلة، والطبيعة العربية الإسلامية الحالية للقدس ما هي إلا نتاج للفترة المملوكية العثمانية.
وفي الفترة العثمانية بني سور القدس في عهد السلطان سليمان القانوني، وأنشئت الأسواق والحمامات والمدارس والتكايا والأسبلة، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر بدأت المدينة بالتوسع خارج أسوار المدينة.
بعد انتهاء الحكم العثماني الذي استمر عدة قرون، احتلت القدس من قبل بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى عام 1917 وبقيت تحت الانتداب البريطاني حتى عام 1948 حين احتل اليهود جزءاً منها. وفي عام 1967 خضعت المدينة كلها للاحتلال الإسرائيلي.
تزخر القدس بغنى تراثها الثقافي وتنوعه فقد أُدرجت مدينة القدس " البلدة القديمة وأسوارها" في عام 1982 على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، بواسطة المملكة الأردنية الهاشمية.